مولفات سماحة مرجع الديني الشيخ الفيّــاض

النظرة الخاطفة في الاجتهاد
جلد
1
النظرة الخاطفة في الاجتهاد
جلد
1
عنوان الكتاب : النظرة الخاطفة في الإجتهاد
الناشر : مكتب سماحته
الجزء : 1
عدد الصفحات: 96
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين و الصلاة والسلام
على محمد وآله الطيبين الطاهرين
1 – الأحكام التشريعية الإسلامية: ضرورية، نظرية واقعية، اجتهادية.
2 – عملية الاجتهاد وعملية التقليد: عمليتان ضروريتان في الاسلام بحكم ضرورة التبعية للدين.
3 – البحوث الأصولية بحوث نظرية لتحديد النظريات العامة المحددة، البحوث الفقهية بحوث تطبيقية.
4 – الحركة الفكرية الاجتهادية تؤكد في المسلمين أصالتهم الفكرية وشخصيتهم التشريعية المستقلة المستمدة من الكتاب والسنة في طول التاريخ.
5 – الفقه والأصول مترابطان بترابط العلم التطبيقي بالعلم النظري في مختلف المراتب والدرجات.
6 – اختلاف المجتهدين في الأحكام الاجتهادية وهي وليدة أفكارهم وهي ذات طابع إسلامي.
وهي تصنف إلى صنفين:
أحدهما: الأحكام الشرعية التي لا تزال تحتفظ بضرورتها بين المسلمين عامة رغم فصل هذه الأحكام عن عصر التشريع بقرون كثيرة، وسنين متطاولة متمادية.
وهذا الصنف – من الأحكام – الذي يتمتع بطابع ضروري لا تتجاوز نسبته إلى مجموع الأحكام الشرعية عن ستة في المائة بنسبة تقريبية، ولا يوجد في هذا الصنف خلاف بين الفقهاء والمجتهدين نهائياً، فأن الخلاف بينهم إنما يبدو في الأحكام الشرعية النظرية
التي يتوقف إثباتها على أعمال النظر والفكر على ضوء البحث النظري والتطبيقي في علميّ الأصول والفقه.
ويكون موقف جميع عناصر المكلفين من المجتهدين والمقلدين تجاه ذلك الصنف من الأحكام على السواء فلا يرجع غير المجتهد فيه إلى المجتهد، حيث لا موضوع فيه لعمليه الإجتهاد والإستنباط، لأن الإجتهاد أنما هو استخراج الحكم الشرعي من دليله وتعيين الموقف العملي تجاه الشريعه بحكم التبعية لها. والفرض أن الموقف العملي لكل مكلف فيه تجاه الشرع معين بدون حاجة إلى أعمال النظر والتطبيق.
ولما كان ذلك الصنف من الأحكام شطراً قليلاً من مجموع الأحكام الشرعية الإسلامية لم تعالج به مشاكل
حياه الإنسان الكبرى في مختلف جوانبها وعلاقاته مع الآخرين: المادية والمعنوية، ولا يمكن الحفاظ به على حقوق الإنسان في تمام مجالاته الفردية والإجتماعية. والصنف الآخر: الأحكام التي تتمتع بطابع نظري وهذا الصنف من الأحكام هو الذي يتوقف إثباته على عملية الإجتهاد والإستنباط.
ومن الطبيعي أن الوصول إلى مرتبة الإجتهاد لا يتيسر لكل أحد، حيث أنه يتوقف على تقديم دراسات ودراسات وبذل جهد كثير في تكوين مجموعة قواعد مشتركة ونظريات عامة، وممارساتها خلال سنين كثيرة. والسبب فيه: أن عملية الإجتهاد من النصوص التشريعية كالكتاب والسنة تتوقف على دراسة عدة نقاط على
صعيد البحث النظري والتطبيقي بشكل ذات طابع إسلامي على الرغم من تقديم دراسة مجموعة علوم بصورة مسبقة كالإعداد لها.
النقطة الأولى:
إن كل مجتهد يعتمد بطبيعة الحال في صحة كل نص من النصوص التشريعية ما عدا النصوص القرآنية والسنة القطعية على نقل أحد الرواة وأرباب الكتب في إطار خاص. ومن الضروري أن المجتهد مهما حاول في
تدقيق وثاقة الراوي وامانته في النقل لن يتأكد بشكل قاطع من صحة النص ومطابقته للواقع الموضوعي في نهاية المطاف وذلك لجهات:
الأولى: أنه لا يعرف مدى وثاقة الراوي وأمانته في النقل بشكل مباشر وأنما وصلت إليه في إطار نقل الأحاد تاريخياً في كتب الرجال.
الثانية: أن الراوي مهما بلغت وثاقته وأمانته في النقل مداها إلا أنه لك يكن مصوناً من الخطاء والإشتباه، ونقل مالا واقع له، وبذلك يتغير وجه عملية الإجتهاد عن واقعها الموضوعي.
الثالثة: أن وصول النصوص التشريعية إليه لم يكن بشكل مباشر بل بعد أن تطوف عدة أشواط وتصل إليه
في نهاية المطاف.
فالنتيجة على ضوء هذه الجهات الثلاث إن المجتهد في مقام عملية الإجتهاد وتعيين الوظائف العملية تجاه الشريعه – مهما اهتم وبالغ في تدقيق السند – لن يتمكن إن يتأكد بشكل قاطع بصحة تلك النصوص وصدورها من مصادرها، ومطابقتها للواقع الموضوعي في كل شوط، فما ظنك في تمام الأشواط.
النقطة الثانية:
إن كل مجتهد بطبيعة الحال يعتمد في كشف مدا ليل النصوص التشريعية وتعيينها في اطارها الخاص على الفهم العرفي وطريقتهم المتبعة في باب الألفاظ التي
تقوم على أساس مناسبات الحكم والموضوع الإرتكازية وتكوين قواعد مشتركة منها وفقاً لشروطها العامة.
النقطة الثالثة:
إن كل مجتهد يعتمد في كشف مطابقة مدا ليل النصوص التشريعية المحددة بالفهم العرفي لواقع التشريع الإسلامي على قاعدة عقلائية منذ عهد التشريع وهي أن العقلاء يحملون كل كلام صادر من متكلم ملتفت على بيان الواقع والجد دون التقيه ونحوها.
فهذه هي: النقاط الثلاث التي لا بد لكل مجتهد للوصول إلى درجة الإجتهاد من دراسة هذه النقاط
دراسة موضوعية، وبذل الجهد فيها، وتكوين النظريات العامة والقواعد المشتركة، مع دراسة عدة علوم أخرى بصورة مسبقة كالإعداد لها.
ثم أن الفراغ بين عصر التشريع وعصر الإجتهاد مهما زاد وكثر واجهت النصوص التشريعية الشكوك والأوهام أكثر فأكثر من مختلف الجوانب والجهات.
ومن هنا كانت عملية الإجتهاد في الزمن المعاصر عملية صعبة ومعقدة، ومحفوفة بالشكوك والأوهام والمخاطر، فعلى المجتهد أن يقوم لدفع تلك الشكوك والأوهام والمخاطر، وملء الفراغ في مقام هذه العملية، ولا يتمكن من ذلك إلا بما يتبناه في الأصول من النظريات العامة، والقواعد المشتركة في الحدود المسموح بها وفقاً لشروطها العامة.
ولما لم تكن تلك القواعد المحددة في الأصول متمتعة بطابع قطعي لم تدفع الشكوك والأوهام – التي تواجه
النصوص بشكل قطعي – وحينئذ فيواجه المجتهد أمام ذلك الموقف – الذي يتخذه في مقام عملية الإجتهاد رغم عدم تأكده بصحة تلك العملية ومطابقتها للواقع الموضوعي جزماً:
السؤال التالي: وهو أن المجتهد لما لم يتمكن من التأكد بصحة النصوص التشريعية بشكل قاطع – في مقابل الشكوم والأوهام التي تواجهها في كل شوط شتى الجهات – فكيف يسمح له أن يعتمد على هذه النصوص في مقام عملية الإجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية منها، رغم أن الإسلام لم يسمح العمل بالظن والإعتماد عليه في تشريعه.
والجواب عن ذلك السؤال: هو أن الدين الإسلامي قد
سمح منذ بداية تشريعة للتصدي لعملية الإجتهاد، وتحديد الوظيفة العملية تجاه الشريعة من النصوص التشريعية، رغم أن هذه العملية لا تتعدى عن درجة الظن إلى درجة اليقين في تمام مراحل وجودها – من البداية إلى أن تطورت وأصبحت عملية معقدة. فأن من كان يعيش في عصر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) من المسلمين لم يكن يتمكن كل فرد منهم أن يسمع الحكم الشرعي من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مباشرة، أو من إناس لا يشك في صدقهم، ولا سيما النساء ومن يكون بعيداً عن المدينة المنورة.
فأذن بطبيعة الحال كان سماع الأحكام الشرعية غالباً من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم) بواسطة
أناس ينقلون الأحاديث والأحكام إليهم. وحينئذ يكون فهم الحكم الشرعي من الروايات الواصلة إليهم. تارة يكون مستنداً إلى القطع بالصدور، والدلالة والجهة ولو كان ذلك من جهة غفلة الشخص عن احتمال خطأ الناقل واشتباهه في النقل وأخرى لا يكون مستنداً إلى القطع بهذه الجهات، لإلتفاته إلى أن الناقل قد يخطأ ويشتبه في النقل، أو في السماع وان افترض القطع بعدم تعمده في الكذب، وفي مثل ذلك لا محالة يكون فهم الحكم الشرعي من النصوص بحاجة إلى قاعدة عامة كحجية تلك النصوص، وحجية ظهورها العرفي، أو ما شاكل ذلك، ولا يمكن ذلك الفهم بدون تطبيق هذه القواعد العامة وأن كان ذلك التطبيق بحسب الإرتكاز،
وبدون الوعي والإلتفات منهم إلى طبيعة هذه القواعد وحدودها، وأهمية دورها في عملية الإستنباط والإجتهاد.
ومن المعلوم: أن هذا بداية نقطة عملية الإجتهاد والإستنباط بأبسط وجودها. ثم تطورت عصراً بعد عصر تدريجياً إلى أن تبلورت هذه العملية في زمان الصادقين (عليهما السلام) بين جماعة من الرواة، ووجدت بذرة التفكير الأصولي في آفاق أذهانهم.
كما يظهر ذلك بوضوح من بعض الأسئلة الموجهة من قبل هؤلاء إلى الأمام (عليه السلام) كقول الراوي: «أفيونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني» ونحو ذلك، فأنه يكشف عن وجود بذرة
التفكير الأصولي في مرتكزات ذهنه، وهي حجية خبر الثقة وهذا يعني – أن يونس بن عبدالرحمن إذا كان ثقة أمكن استنباط الحكم الشرعي من قوله – بتطبيق القاعدة العامة عليه – وهي حجية خبر الثقة.
وإن شئت قلت: إن من راجع الروايات ونظر فيها يظهر له من مجموعة الأسئلة فيها وجود بذرة التفكير الأصولي في آفاق اذهان هؤلاء الرواة، ومرتكزاتهم. ثم أن هذه البذرة قد تطورت ونمت في عصر الغيبة تدريجاً على ضوء تطور العمل الفقهي، ونموه وتوسعه بتوسع مختلف جوانب الحياة ونموها إلى أن انفصلت دراسة هذه البذرة عن الدراسة الفقهية، وأصبحت دراسة علمية مستقلة، وقائمة بنفسها، وتسمى هذه
الدراسة التي هي على صعيد البحث النظري – بعد انفصالها عن الدراسة الفقهية التي هي على صعيد البحث التطبيقي واستقلالها – بعلم الأصول، فالتسمية متأخرة.
وأما المسمى – وهو جودة البذرة – فهو ولد منذ ولادة العمل الفقهي، ولا يمكن انفكاك النظر الفقهي عن النظر الأصولي في أية مرحلة من مراحل وجوده، للترابط الوثيق بينهما في تمام المراحل، حيث أن عملية الاستنباط عملية قد نتجت من الترابط بينهما ترابط العلم النظري بالعلم التطبيقي.
إلى هنا قد استطعنا إن نخرج بهذه النتيجة: وهي إن عملية الإجتهاد، وتحديد الوظائف العملية تجاه الشريعة
– من النصوص التشريعية – ليست عملية مستحدثة في عصر الغيبة، بل أنها موجودة في عصر التشريع على طول الخط، غاية الأمر أن وجودها في ذلك العصر كان وجوداً بدائياً بسيطا، وغير متطور ومعقد. ثم أن عملية الإجتهاد في عصر التشريع تمتاز عن عملية الإجتهاد في عصر الغيبة بأمرين:
أحدهما: أن الإجتهاد في عصر التشريع على طول الخط كان عملية سهلة، وغير معقدة، إذ الإنسان في ذلك العصر لم يكن بحاجة في الوصول إلى مرتبة الإجتهاد إلى تقديم دراسات مجموعة علوم بصورة مسبقة بالصيغ الموجودة حالياً كالإعداد لها وإلى تقديم
دراسات النصوص التشريعية في مختلف مجالاتها لملء الثغرات والفجوات التي تنجم عن ابتعاد الفقيه عن عصر التشريع. وأما الإجتهاد في هذا العصر فالوصول إليه بحاجة إلى تقديم الدراسات في مختلف الجهات، وممارستها لملء الفراغ الناجم من ابتعاد الفقيه عن عصر التشريع، ودفع الشكوك والأوهام التي تواجهها النصوص التشريعية مهما أمكن، وتبرير العمل بها رغم وجود تلك الشكوك والأوهام في الواقع، وعدم إمكان إزالتها نهائياً.
والآخر: إن الإجتهاد في عصر التشريع أقرب إلى واقع التشريع الإسلامي من الإجتهاد في العصور المتأخرة،
حيث إن الإجتهاد في هذه العصور كما عرفت مكتنف بالشكوك والأوهام حول مدى صحة النصوص التشريعية الواصلة بطريق الأحاد عبر قرون متطاولة، بينما لم يكن الإجتهاد في عصر التشريع مكتنفاً بتلك الشكوك والأوهام.
نعم يشتركان في نقطة واحدة: وهي سماح الشرع في كشف واقع التشريع الإسلامي ظاهراً بالعملية المذكورة – التي هي عملية ظنية لا تتعدى عن حدود الظن – وحينئذ علينا أن نفصل ذلك الظن عن الظن الذي لم يسمح الإسلام العمل به. والإعتماد عليه فيه التشريع.
بيان ذلك: أن الظن الذي قد سمح الإسلام العمل به في كشف تشريعاته كان ذا طابع خاص – يشرح ذلك
الطابع في ضمن حدود معينة وفقاً لشروطها العامة في علم الأصول – وهو الطن الحاصل من النصوص التشريعية بالأحكام الشرعية في ضمن شروطه المبينه المحدودة.
ولا فرق في جواز العمل بذلك الظن بين عصر التشريع على طول الخط والعصور المتأخرة إلى نهاية المطاف، فإن الفصل الزمني بينهما مهما طال لا يؤثر في ذلك.
قد عارض جماعة كثيرة من الإخباريين عملية الإجتهاد ومدرسته، وشجبوا هذه المدرسة شجباً عنيفاً، وفي نهاية المطاف علم الأصول، بدون الوعي والالتفات منهم إلى طبيعة علم الأصول، وأهمية دوره الأساسي في الفقه، وأنه العمود الفقري للعمليات الفقهية في مختلف مجالات الحياة.
وهذه المعارضة الشديدة من هؤلاء تقوم على أساس نقطتين:
النقطة الأولى: أنهم فسروا كلمة (الإجتهاد) بتفسير خاطئ: وقالوا: إن الإجتهاد يعني التفكير الشخصي للفقيه في المسألة إذا لم يوجد فيها نص، وهذا التفكير الشخصي يقوم على أثر الإعتبارات العقلية، والمناسبات
الظنية التي تؤدي إلى ترجيحه بصفة كونه حكماً اجتهادياً ذا طابع شرعي.
كما كان هذا هو المتداول بين أبناء العامة، فأنهم إذا لم يجدوا نصاً في المسألة عملوا بعقولهم وأفكارهم الشخصية فيها بملاك المناسبات الظنية، والاستحسانات العقلية، والقياسات الإعتبارية. وجعلوا هذه الأفكار الشخصية، والآراء التي تبتني على تلك الإعتبارات العقلية الظنية مصدراً من مصادر الحكم الشرعي.
ولأجل هذا التفسير الباطل شنَّ هؤلاء الجماعة هجوماً شديداً على مدرسة الإجتهاد وأهلها، وأن هذه المدرسة قد اسست في مقابل مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وعلى خلافها، ولذا وردت في ذم هذه المدرسة
روايات كثيرة منهم (عليهم السلام).
النقطة الثانية: إن علم الأصول هو العلم الحادث في عصر الغيبة. ومأخوذ من العامة، فأنهم الأصل فيه، وليس موجوداً على طول تاريخ الفقه، وفي عصر التشريع وزمان الأئمة (عليهم السلام) ولأجل ذلك قالوا: أن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) عملوا على طبق النصوص التشريعية حرفياً وبدون حاجة إلى علم الأصول، وتطبيق القواعد العامة.
فإذا كان هذا هو طريق تحديد المواقف العملية للإنسان تجاه الشريعه في زمان الأئمة (عليهم السلام) لم يجز التعدي عن هذه الطريقة إلى طريقة أخرى وهي – طريقة الإجتهاد – التي لم تكن موجودة في
ذلك الزمان لكي يستكشف إمضاؤها.
فإذن لا يمكن إثبات أن الشارع قد سمح بطريقة الإجتهاد والإستنباط، ومع عدم السماح بها لا حاجة إلى علم الأصول، فأن الحاجة إليه تنبع عن واقع حاجة عملية الإجتهاد والإستنباط إليه.
ولنأخذ بالنقد على كلتي النقطتين:
أما النقطة الأولى: فلأن تفسير الإجتهاد لدى الأصوليين بالتفسير المذكور تفسير خاطئ لا واقع موضوعي له، فإنهم لم يقولوا بالإجتهاد بالتفسير المزبور في أي تاريخ من التاريخ المعاصر للإجتهاد بداهة أن الإجتهاد عندهم ليس في
مقابل النصوص التشريعية مصدراً من مصادر الحكم الشرعي، كيف حيث أنهم شجبوا الإجتهاد بهذا المعنى، شجباً مريراً على طول الخط تبعاً للروايات المأثورة عن الأئمة (عليهم السلام) فأنها وردت في شجب الإجتهاد بهذا المعنى، وذم من يقوم بأستنباط الحكم الشرعي بهذه الطريقة.
بل الإجتهاد عندهم بمعنى استنباط الحكم الشرعي من الدليل، وتعيين الموقف العملي به تجاه الشريعة، ومعنى الإستنباط هو تطبيق القواعد العامة المشتركة المحددة – الثابتة حجيتها شرعاً في الأصول بنحو الجزم والقطع – على مواردها الخاصة.
ومن المعلوم أن الإجتهاد بهذا المعنى قد أصبح في عصرنا الحاضر من البديهيات، بل الأمر كذلك في تمام العصور أي منذ ولادة الفقه، ولا يسع لأي واحد إنكاره وشجبه حتى من الإخباريين، إذ من الضروري أن النصوص التشريعية ليست قطعية في مختلف جهاتها حتى عندهم.
وعليه فبطبيعة الحال كانوا في فهم الحكم الشرعي من تلك النصوص في كل مسألة من المسائل الفقهية بحاجة إلى تطبيق قاعدة عامة عليها كحجية خبر الثقة، وحجية الظهور العرفي، أو نحو ذلك.
ولا يمكن فهم الحكم الشرعي منها في كل مورد وواقعة بدون الإستعانة بهذه القواعد العامة، وتطبيقها،
وإن كان ذلك بدون الوعي والالتفات منهم إلى طبيعة تلك القواعد، وحدودها، وأهمية دورها.
وهذه هي عملية الإجتهاد والإستنباط، ولا نقصد بالإجتهاد إلا فهم الحكم الشرعي من دليله بتطبيق القاعدة العامة عليه، ولا يمكن للأخباريين إنكار الإجتهاد بهذا المعنى، حيث أن إنكاره مساوق لإنكار الفقه نهائياً.
ومن هنا لا شبهة في أن بذرة التفكير الأصولي موجودة في آفاق أذهان الأخبارين فإنكارهم للأصول يرجع إلى إنكارهم له بوصف كونه دراسة علمية مستقلة ومنفصلة عن البحوث الفقهية.
وقد تحصل من ذلك: أن العامة ليسوا هم الأصل في
التفكير الأصولي حيث أن هذا التفكير موجود على طول التاريخ: نعم هم الأصل في تأليف الأصول بصورة دراسة علمية مستقلة.
وأما النقطة الثانية: فقد عرفنا أن عملية الإجتهاد والإستنباط لم تكن متأخرة تاريخياً عن عصر الحضور بل هي كانت موجودة في ذلك العصر غاية الأمر أن وجودها فيه كان بدائياً وغير معقد أو متطور ثم إننا إذا افترضنا أن عملية الإجتهاد متأخرة زماناً عن عصر الحضور ولم تكن موجودة في ذلك العصر وإنما وجدت وبرزت في مظهر الوجود في عصر الغيبة.
فحينئذ قد تبدو أمام هذا الإفتراض المشكلة الآتية وهي أن عملية الإجتهاد والإستنباط بما أنها حدثت في عصر الغيبة ولم تكن موجودة في عصر الحضور من ناحية، وغير كاشفة عن واقع التشريع الإسلامي إلا في حدود الظن فقط من ناحية أخرى فمع ذلك كيف يمكن الإعتماد على هذه العملية الظنية رغم أن الإسلام قد منع عن العمل بالظن والإعتماد على القول بغير العلم.
“الطريق الأول”
إن موقف الإنسان أمام الله تعالى – بحكم كونه عبداً له سبحانه ومسئولاً عن امتثال أحكامه ومدعواً من قبل
عقله الفطري بالتوفيق بين سلوكه وأفعاله في مختلف جوانب الحياة الإجتماعية، والفردية، المادية، والمعنوية، وبين الأحكام الشرعية الإلهية يدور بين ثلاث خطوات:
الخطوة الأولى: أن الإنسان يقتصر في سلوكه أمام الله تعالى، وإطاعته على خصوص الأحكام الشرعية التي تتمتع بطابع ضروري أو قطعي.
الخطوة الثانية: الأخذ بطريقة الإحتياط في مختلف مجالات الحياة.
الخطوة الثالثة: الأخذ بطريقة الإجتهاد، وتعيين الوظائف العملية بها تجاه الشريعة.
وبعد ذلك نقول:
أما الخطوة الأولى: فلا يمكن للإنسان – بحكم كونه عبداً للّه تعالى، ويرى نفسه ملزماً ببناء كل تصرفاته وسلوكه في شتى جوانب الحياة على أساس القوانين الشرعية الإلهية – أن يأخذ بهذه الخطوة، لما عرفت من أنها لا تكفي إلا في شطر قليل من مجالات الحياة.
ولازم ذلك: هو أن يكون الإنسان حراً في تصرفاته وسلوكه الإجتماعية، والفردية إلا في هذا الشطر القليل
منها، ومن البديهي أن هذا لا ينسجم مع اهتمام الشارع وحكم العقل ببناء كل تصرفاته، وسلوكه في مختلف المجالات على الشريعة من ناحية وكون هذه الشريعة شريعة خالدة متكفلة لحل تمام مشاكل الإنسان على طول الخط من ناحية أخرى.
ومن هنا قد أشرنا: فيما تقدم من أن تلك الفئة من الأحكام الإسلامية باعتبار قلتها لا تعالج بها مشاكل الإنسان الكبرى: الإجتماعية، والفردية بينما كان الدين الإسلامي هو النظام الوحيد لحل المشاكل المعقدة في مختلف مجالات الحياة على أساس أنه يزود الإنسان بطاقات نفسية، وبملكات فاضلة وأخلاق سامية لمعالجة تلك المشاكل المعقدة، وهو يربط بين الدوافع الذاتية
والميول الطبيعية والإتجاهات الشخصية للإنسان، وبين مصالح الإنسان الكبرى: وهي العدالة الإجتماعية التي قد أهتم الإسلام بها، وهو الوسيلة الوحيدة لحل التناقضات بين الدوافع الذاتية لمصالح شخصية. وبين الدوافع النوعية لمصالح نوعية، وهو يجهز الإنسان بطاقات غريزة الدين ودوافعه، وبذلك تصبح المصالح العامة للمجتمع الإنساني على وفق الميول الطبيعية، والدوافع الذاتية، وهذا معنى حل الدين الإسلامي لمشكلة الإنسان الكبرى على وجه الأرض.
ولأجل هذا المحذور لا يمكن اقتصار المكلف في مقام أداء الوظيفة على هذه الخطوة فقط.
وأما الخطوة الثانية: فهي وإن كانت في نفسها خطوة جادة إلا أنه لا يمكن الأخذ بها، لأجل أحد محذورين:
الأول: أن كل فرد من أفراد المكلفين لا يتمكن من الأخذ بهذه الخطوة في مختلف مجالات الحياة، والعلاقات مع الآخرين، فإن الأخذ بها يتوقف على معرفة مواردها وهي لا تتيسر لكل فرد.
الثاني: أن هذه الخطوة بما أنها تتطلب انشغال المكلف بالوظائف الدينية بأكثر من اللازم فلاجل ذلك قد تؤدي إلى نتيجة مضادة لها كما فصلنا الحديث عن ذلك في علم الأصول.
وأما الخطوة الثالثة:
وهي عملية الإجتهاد والإستنباط – فهي عبارة عن إقامة المجتهد الدليل في كل واقعة من الوقائع على تحديد الموقف العملي للإنسان تجاه الشريعة بحكم التبعية لها، ويسمى ذلك في المصطلح باسم عملية الإجتهاد والإستنباط فعلم الفقه هو العلم الذي وضع لهذه العملية، وتعيين المواقف للإنسان تجاه الشرع في تمام الوقائع والأحداث التي تمر على حياة الإنسان فكلما تجددت المشاكل للحياة بتجدد الوقائع والأحداث فعلى الفقيه أن يقوم بتحديد الموقف العملي للإنسان أمام هذه المشاكل.
ولأجل ذلك: يتطور علم الفقه ويتسع ويتعمق بتطور
الأحداث والوقائع، وتجدد المشاكل.
فالنتيجة من ذلك:
أن علم الفقه يتولى تحديد الموقف العملي لكل إنسان مكلف تجاه الشريعه بحكم تبعيته لها في مختلف سلوكه.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن طبيعة هذه العملية في كل واقعة تتطلب تطبيق القواعد العامة عليها، ولا يمكن الإستنباط والإجتهاد بدون الإستعانه بتطبيقها عليها نهائياً فإن خبر الثقة في كل مورد وواقعة إنما يكون دليلاً على تعيين الموقف العملي وتحديده تجاه الشرع إذا ثبتت حجيته كقاعدة عامة وإلا لم يكن الخبر
المزبور دليلاً على الإستنباط وتعيين الوظيفة.
فعلم الأصول موضوع لطريقة تحديد القواعد العامة في الحدود المسموح بها على صعيد البحث النظري. وعلم الفقه موضوع لتصدي الفقيه إقامة الدليل في كل مورد وواقعة على تعيين الموقف العملي تجاه الشرع على صعيد البحث التطبيقي.
ومن هنا تكون البحوث الأصولية بحوثاً نظرية لتحديد النظريات العامة المحددة، والبحوث الفقهية بحوثاً تطبيقية، ولأجل ذلك تكون عملية الإجتهاد والإستنباط مرتبطة بعلم الأصول ارتباط الصغرى بالكبرى، والعلم التطبيقي بالعلم النظري فلا يمكن افتراض تجرد علم
الفقه عن علم الأصول في تمام مراحل وجوده أي من البداية إلى النهاية.
ونستخلص من ذلك كله أن الإجتهاد والإستنباط بهذا المعنى – وهو إقامة الدليل على تحديد الموقف العملي تجاه الشرع – أمر لا يقبله الشك، ويكون من البديهيات التي هي غير قابلة للنظر والتأمل فيها إذ بعد ما عرفنا أن الأحكام الشرعية لم تبلغ في الوضوح بدرجة تغني عن إقامة الدليل عليها فلا يعقل أن تكون هذه العملية غير مشروعة، حيث أن ذلك مساوق لإهمال الشريعة وتجميدها نهائياً.
ومن المعلوم أن ذلك مخالف لضرورة حكم العقل، والشرع، ولا ينسجم مع خلود هذه الشريعة، وكونها
الوسيلة الوحيدة لحل المشاكل والتناقضات في مختلف سلوك الإنسان على طول الخط.
فالنتيجة أن هذه العملية عملية ضرورية تنبع عن ضرورة تبعية الإنسان للشريعة، ومسئوليته أمامها.
ثم أن الإخباريين لا يمكن أن يكونوا منكرين للإجتهاد بهذا المعنى، فأن انكاره مساوق لإنكار الفقه نهائياً، حيث قد عرفت أن الفقه هو نفس هذه العملية في كل واقعة ومسألة، والفرض أنهم لا يكونون منكرين لعلم الفقه، وقد عرفنا أن ارتباط الفقه بالقواعد العامة الأصولية كان ذاتياً على أساس أنها النظام العام في العملية، ويستحيل افتراض تجرده عن هذا النظام العام على طول التاريخ.
تبقى نقتطان من التساؤل:
النقطة الأولى: إن الإسلام كما يسمح للشخص باستنباط حكمه الشرعي وتحديد موقفه العملي تجاه الشريعة هل يسمح له باستنباط حكم غيره وتحديد موقفه العملي تجاها والافتاء به؟
النقطة الثانية: إن الإسلام هل يسمح بعملية الاجتهاد والاستنباط في كل عصر، ولكل فرد، أو لا يسمح إلا لبعض الأفراد، أو في بعض العصور؟
أما النقطة الأولى:
فلا شبهة في سماح الإسلام باستنباط حكم الغير، وتحديد وظيفته العملية تجاه الشريعة، والافتاء به، وحجية هذا الافتاء على الغير فانه – بحكم كونه عامياً وغير مجتهد – مدعو من قبل العقل، وملزماً ببناء كل تصرفاته وسلوكه في مختلف مجالات الحياة على فتاوى المجتهد وآرائه، ويسمى ذلك في المصطلح العلمي بعملية التقليد.
وهذه العملية عملية ضرورية في الإسلام كعملية الإجتهاد تنبع من ضرورة واقع جهات ثلاث:
الأولى: أن كل فرد بحكم كونه عبداً للّه تعالى ملزم من قبل العقل بامتثال أحكامه الشرعية وبتطبيق سلوكه في
تمام مجالات الحياة الإجتماعية والفردية على الشريعة.
الثانية: أن كل فرد من المكلف لا يتمكن من الاجتهاد وعملية الاستنباط وتعيين موقفه العملي في كل واقعة تجاه الشريعة.
الثالثة: إنه لا يتمكن من الاحتياط في كل واقعة من الوقائع التي تمر على حياة الإنسان حيث أنه يتوقف على تشخيص موارده، ودفع موانعه، وهو لا يتيسر لكل فرد، ولا سيما في الشبهات الحكمية، إلا أن يكون مجتهداً، أو كان بهداية منه.
وقد تحصل من ذلك أن عملية التقليد كعملية الاجتهاد أمر لا يقبله الشك وتكون من البديهيات وهذه البداهة تنبع في النهاية من بداهة تبعية الإنسان للدين فالمنع عن
هاتين العمليتين مساوق للمنع عن التبعية للدين، فاذن لا معنى للنزاع في أن الشارع قد سمح بهاتين العمليتين أو لم يسمح بهما، فإنه كالنزاع في البديهيات، ولا معنى له أصلاً.
ثم أن التقليد – مضافاً إلى ما ذكرناه: من أنه عنصر ضروري في الإسلام لتحديد الموقف العملي تجاه الشريعه – مطابق للجبلة والفطرة أيضا وهي رجوع الجاهل إلى العالم في تعيين مواقفه العملية وقد جرت على ذلك السيرة القطعية من العقلاء، وهذه السيرة موجودة على امتداد عصر التشريع وبدون أي ردع عنها.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة: وهي أن الاجتهاد
والتقليد في الحدود المسموح بهما عنصران اساسيان في الإسلام، وكل فرد – بحكم التبعية للدين – ملزم بالعمل بأحد هذين العنصرين تحديداً لموقفه العملي من الشرع، وحفاظاً على ظاهر التشريعات الإسلامية والآثار الإيجابية، وضبطاً للآثار السلبية المترتبة على عدم العمل بهما.
وأما النقطة الثانية:
وهي سماح الإسلام بعملية الإجتهاد في كل عصر ولكل فرد فهي أيضاً ضرورية وهذه الضرورة تنجم عن ابدية الشريعة الإسلامية من ناحية، وانها الوسيلة الوحيدة لحل تمام مشاكل الحياة المعقدة في كل عصر
من ناحية أخرى.
والتبعية التي تفرض على الإنسان للدين في سلوكه بشتى اشكاله من ناحية ثالثة، والنصوص التشريعية الواصلة في هذا العصر ليست من الوضوح بدرجة تغني عن كلفة اقامة الدليل، وبذلك الجهد فيها من ناحية رابعة، وضرورة عدم الفرق بين عصر دون وفرد دون فرد من ناحية خامسة.
ومجموع هذه النواحي: يستدعي ضرورة حركة فكرية اجتهادية ذات طابع إسلامي على طول الخط لكي تفتح الآفاق الذهنية، وتحمل مشعل الكتاب والسنة في كل عصر، ولولا هذه الحركة الفكرية الاجتهادية في الإسلام، التي تطورت وتعمقت عصراً بعد عصر بتطور
الحياة واتساعها وتعمقها في مختلف مجالاتها الاجتماعية والفردية – لم تتبلور اصالة المسلمين في التفكير والتشريع المتميز المستمد من الكتاب والسنة على طول التاريخ في عصر الغيبة.
لو لم تكن هذه الحركة الفكرية المسماة في الاصطلاح العلمي بعملية (الإجتهاد) مستمرة في هذا العصر على طول الخط لأنطفى مشعل الكتاب والسنة في نهاية المطاف وظلت المشاكل الحياتية المتجددة في كل عصر بدون حل صارم.
ومن هنا يتطور علم الفقه، ويتسع، ويتعمق تدريجياً تبعاً لتطور الحياة، واتساعها، وتعمقها في تمام المجالات.
ومن هنا يكون تطور علم الفقه، واتساعه في تمام
المجالات الحياتية على طول الخط يؤكد في المسلمين اصالتهم الفكرية، وشخصيتهم التشريعية المستقلة المتميزة.
فاذن لا بد من قيام جماعة في كل عصر لبذل الجهد للوصول إلى هذه المرتبة أي مرتبة الإجتهاد وتحمل مصاعبها، ومشاقها، وإلا لظلت المشاكل المتجددة بدون حلول ملائمة لها في إطار الشرع.
إن حقيقة الإجتهاد عبارة عن عملية تطبيق القواعد المشتركة والنظريات العامة – التي يبناها المجتهد في الأصول – على صغرياتها، وعناصرها الخاصة في
الحدود المسموح بها وفقاً لشروطها، ونتيجة هذه العملية هي أحكام شرعية ظاهرية.
وتلك الأحكام تكون وليدة أفكار المجتهدين بما للها من الطابع الإسلامي، ولذا قد تكون مطابقة للأحكام الشرعية الواقعية، وقد تكون مخالفة لها، وعلى كل التقديرين يلزم العمل بها.
حيث ان المجتهد: قد اثبت حجية تلك القواعد والنظريات العامة التي تتمتع بطابع أصولي بشكل قطعي من قبل الشرع في علم الأصول.
ولا نقصد بذلك: بطبيعة الحال مطابقة تلك القواعد والنظريات لواقع التشريع الإسلامي، بل نقصد به قطع المجتهد بحجيتها التي تؤدي إلى تنجيز الواقع لدى
الإصابة، والتعذير لدى الخطأ.
كما لا نقصد بالقطع بالحجية: قطع المجتهد بها مباشرة فإن المجتهد قد يقطع بها بشكل مباشر، وقد يقطع بها في نهاية المطاف، بقانون ان كلما يكون بالغير لا بد أن ينتهي إلى ما بالذات.
وحيث أن غير القطع الوجداني من الإمارات والقواعد العامة لا تملك الحجية الذاتية، وإنما جاءت حجتيها من قبل الغير فلا بد أن تنتهي إلى ما يملك الحجية الذاتية – وهو القطع الوجداني – ولو في نهاية المطاف وإلا لتسلسل.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة: وهي أن عملية الإجتهاد وإن كانت في نفسها عملية ظنية إلا أنها
مؤمنة على كل تقدير جزماً، وعليه فعمل المتجهد يكون مستنداً إلى القطع بالمؤمن دائماً وكذا الحال في المقلد، حيث أنه يقطع بحجية فتاوى المجتهد عليه وبمؤمنيتها على كل تقدير فلا يكون المكلف عاملاً بالظن بها ومعتمداً عليه في حال من الحالات، ولا يجوز ذلك بحكم العقل، لألزامه بتحصيل القطع بالمؤمن، ودفع احتمال العقاب. ومدلول نصوص الكتاب والسنة الناعية عن العمل بالظن ارشاد إلى ذلك، ولا يكون تعبيراً عن حكم شرعي مولوي عام.
ان علم الأصول: قد وضع لممارسة وضع النظريات العامة وتحديد القواعد المشتركة – في الحدود المسموح بها وفقاً لشروطها العامة – للتفكير الفقهي التطبيقي.
وفي مقابل ذلك علم الفقه، فإنه قد وضع لممارسة طريقة تطبيق تلك النظريات العامة والقواعد المشتركة على المسائل والعناصر الخاصة التي تختلف من مسألة إلى مسألة أخرى.
ومن هنا يرتبط: علم الفقه بعلم الأصول ارتباطا وثيقاً منذ ولادته إلى أن ينمو، ويتطور، ويتسع تبعاً لتطور البحث الفقهي، واتساعه بوجود مشاكل جديدة في الحياة.
بيان ذلك: أن فهم الحكم الشرعي من النصوص التشريعية في كل مسألة ومورد بحاجة إلى عناية ودقة ما، ومن المعلوم أن هذا الفهم المسمى بالتفكير الفقهي لا يمكن بدون التفكير الأصولي يعني بدون استخدام القواعد العامة الأصولية وأن كان الممارس غير ملتفت إلى طبيعة تلك القواعد، وحدودها، وأهمية دورها في ذلك.
ولأجل هذا الترابط الوثيق بين الفقه والأصول فكلما اتسع البحث الفقهي، وتعمق باتساع مشاكل الحياة، ووجود عناصر جديدة فيها ادى ذلك إلى اتساع البحوث الأصولية والنظريات العامة وتطورها، وتعمقها، حيث أن اتساع الفقه كماً كيفاً يدفع البحوث الأصولية
العامة خطوة إلى الأمام، لحل المشاكل الجديدة في الحياة.
فالنتيجة: أن توسع البحوث الفقهية التطبيقية وتطورها، تبعاً لتطور الحياة، وتوسعها في مختلف مجالاتها يتطلب توسع البحوث الأصولية، وتطورها بنسبة واحدة.
وعلى هذا الضوء: فكلما كان الباحث الأصولي ادق واعمق في التفكير الأصولي، وتكوين النظريات العامة، والقواعد المشتركة المحددة كان ادق وأعمق في طريقة عملية تطبيقاتها على المسائل الخاصة وفقاً لشروطها العامة، لوضوح أن الترابط بين العلمين والتفاعل بينهما في تمام المراحل يستدعي أنه اذا بلغ مستوى التفكير الأصولي درجة بالغة من الدقة والعمق
بلغ مستوى التفكير الفقهي التطبيقي نفس الدرجة.
ولا يعقل أن يكون مستوى التفكير الأصولي بالغاً درجة كبيرة من الدقة والعمق، ولكن كان مستوى التفكير الفقهي التطبيقي دون ذلك المستوى والدرجة.
وأن شئت قلت: أن النظريات العامة الأصولية كلما كانت موضوعة في صيغ أكثر عمقاً وصرامة، وأكبر دقة كانت أكثر غموضاً، وتطلبت في مجال التطبيق دقة أكبر، والتفاتاً أكثر.
وهذا معنى الترابط والتفاعل بين الذهنية الأصولية والذهنية الفقهية، وهاتان الذهنيتان متبادلتان على مستوى واحد في ذهنية كل فرد في تمام مراحل وجودهما فإن دقة البحث في النظريات العامة في
الأصول تنعكس في الفقه على صعيد التطبيقات.
ولا نقصد بذلك أن عملية تطبيق النظريات العامة على المسائل والعناصر الخاصة لا يحتاج إلى إي تفكير، وبذل جهد علمي، وأن الجهد العلمي المبذول في دراسة النظريات العامة على صعيد البحث النظري، وتكوين القواعد المشتركة في الحدود المسموح بها – يغني عن بذل جهد جديد في تطبيق هذه النظريات العامة على مواردها الخاصة، اذ من الواضح أن المجتهد كما أنه بحاجة – في دراسة النظريات العامة في الأصول، وتكوين القواعد المشتركة المحددة – إلى التفكير، وبذلك الجهد العلمي المتعب خلال سنين متمادية، كذلك أنه بحاجة في تطبيق تلك النظريات
العامة والقواعد المشتركة على عناصرها الخاصة إلى دراسة جوانب التطبيق، وممارستها، وما يرتبط به من القرائن والامارات العرفية، والمناسبات الارتكازية في كل مسألة بلحاظ طبيعة تلك المسألة وأرضية موردها. بل نقصد بذلك أن الذهنية الأصولية النظرية ترتبط بالذهنية الفقهية التطبيقية في تمام المراتب فإذا بلغت الذهنية الأصولية درجة أكبر عمقاً، وأكثر دقة انعكست تماماً في الذهنية الفقهية وتطلبت في مجال التطبيق دقة أكثر، وعمقاً أكبر.
ونظير ذلك علم الطب حيث يبحث فيه عن النظريات العامة، وتكوين القواعد المشتركة على صعيد البحث النظري، وفي مجال تطبيق تلك النظريات العامة على
المريض يدرس الطبيب حالاته ومشاكله الداخلية، والخارجية التي يمكن أن يكون مرضه مرتبطاً بها. وفي خلال التطبيق يصادف العثور على مشاكل جديدة وعوامل أخرى بصورة مستمرة ولا يتمكن معالجة المريض الناجم مرضه من المشاكل والعوامل المزبورة الا بدراستها على أساس أن ما لديه من النظريات العامة لا ينطبق على المريض المذكور بلحاظ طبيعة مرضه.
ومن الطبيعي أن هذه المشاكل الجديدة والعوامل الأخرى تدفع النظريات الطبية العامة خطوة إلى الأمام دقة وعمقاً، وأكثر استيعاباً، لحل تلك المشاكل والعوامل الجديدة.
ومن هنا تتطور النظريات الطبية العامة، وتتوسع وتتعمق
عصراً بعد عصر بشكل مستمر، ومن البديهي أنه كلما تطورت تلك النظريات، وتوسعت دراستها وتعمقت بدقة أكبر، وبالتفات أوسع، وباستيعاب أكمل تطلبت في مجال التطبيق دراسة حالات المرضى أكثر دقة، وأكبر عمقاً، وأوسع التفاتاً وأكمل استيعاباً، ومتى كانت النظريات الطبية نظريات بسيطة بدائية تطلبت في مجال التطبيق دراسة حال المرضى بنفس تلك البساطة والمستوى، ولذا كان الطبيب في الأزمنة السابقة والقرون المتقدمة يكتفي في مجال التطبيق برؤية لسان المريض أو إحصاء نبضه أو ما شاكل ذلك.
يقع الخلاف بينهم في مرحلتين:
المرحلة الأولى: في تكوين النظريات العامة، والقواعد المشتركة للتفكير الفقهي.
المرحلة الثانية: في مجال تطبيق تلك القواعد، والنظريات العامة على صغرياتها، ومواردها الخاصة.
أما المرحلة الأولى:
فمنشأ الإختلاف في هذه المرحلة انما هو الاختلاف في نتائج الأفكار التي تستعمل في تكوين تلك القواعد، والنظريات العامة وتحديدها في الحدود المسموح بها وفقاً لشروطها العامة، فإن نتيجة التفكير حول حجية النصوص التشريعية تختلف بطبيعة الحال سعة وضيقاً،
كماً كيفاً، تبعاً لاختلاف شروطها العامة.
وكذلك حول استفادة مداليل تلك النصوص على أساس المناسبات العرفية الارتكازية، ومطابقة تلك المداليل للواقع الموضوعي، ومستوى تلك القواعد ومداها دقة شمولاً.
ثم أن ذلك الإختلاف الموجود في نتائج الأفكار بين المجتهدين في تحديد تلك القواعد، والنظريات العامة في الأصول على صعيد البحث النظري يرجع في نهاية المطاف إلى إحدى النقاط التالية:
الأولى: الموقف الشخصي لكل مجتهد ازاء تحديد تلك القواعد، والنظريات العامة، وتكوينها وفقاً
لشروطها، فأنه قد يؤثر في موقفه الواقعي أمام هذه القواعد والنظريات، ويغيره عن وجهه الواقعي.
الثانية: المقدرة الفكرية الذاتية، فإن لأختلاف المجتهدين في تلك المقدرة الفكرية أثراً كبيراً لأختلافهم في تحديد تلك القواعد والنظريات العامة وتكوينها بصيغة أكثر دقة، وعمقاً.
الثالثة: المقدرة العلمية بصورة مسبقة، فإن لاختلاف المجتهدين في تلك المقدرة العلمية أثراً بارزاً في كيفية تكوين تلك القواعد، والنظريات العامة، تبعاً لشروطها.
الرابعة: غفلة المجتهد خلال دراسة تلك القواعد،
وممارستها عما يفرض دخله في تكوينها، أو عدم استيعابه تمام ما يفرض دخله فيه، فإن ذلك يغير وجه تلك القواعد سعة وضيقاً عن واقعها.
الخامسة: اختلاف الظروف والبيئة التي يعيشه المجتهد فيها مدة من عمره، فإنه قد يؤثر في سلوكه العملي تجاه تكوين تلك القواعد، وتحديدها في اطار إسلامي.
السادسة: خطاء المجتهد في الفهم والنظر، حيث أنه يغير وجه تكوين تلك القواعد، والنظريات العامة عن واقعها الموضوعي كماً وكيفاً.
وأما المرحلة الثانية:
وهي مرحلة التطبيق – فيقع الخلاف بين المجتهدين في
هذه المرحلة مع افتراض اتفاقهم في المرحلة الأولى، كما إذا افترض انهم متفقون على حجية كل نص يرويه ثقة أمين كقاعدة عامة، ولكن قد يقع الخطأ في مقام التطبيق فيبدو لبعض منهم وثاقة الراوي وأمانته في النقل في رواية، وبنى عليها حجيتها، والعمل على وفقها، رغم أنه في الواقع ليس بثقة وأمين، وبذلك يتغير موقفه أمام عملية الإجتهاد والإستنباط عن موقف من أصاب الواقع، وعلم بعدم وثاقته.
وقد يبدو له: دلالة الأمر الوارد في مسألة مثلاً على الوجوب غافلاً عن وجود قرينه تعبر عن الاستحباب فيها، وقد يكون الأمر بالعكس.
وقد يبدو له: عدم التعارض بين نصين فيجمع بينها
بتقديم أحدهما على الآخر، لوجود مرجح دلالي رغم أن بينهما تعارضاً، ولا مرجح له في الواقع.
وقد يبدو له تعارض بينهما، وفي الواقع لا معارضة، وهكذا، فإن هذه الخلافات التي تقع بين المجتهدين على صعيد التطبيقات مع افتراض اتفاقهم على صعيد النظريات فأيضاً تنشأ من الاختلافات بينهم في النقاط الآنفة الذكر.
قد أصبح من المعقول أن توجد لدى كل من يمارس عملية الإجتهاد والإستنباط مجموعة من الأخطاء والمخالفات لواقع التشريع الإسلامي، فإذن علينا أن نفصل الأحكام الإسلامية في واقع التشريع الإسلامي عن الأحكام الشرعية التي هي نتيجة اجتهادات المجتهدين ونظرياتهم، فإن الخلافات بين المجتهدين إنما هي واقعة في هذه المجموعة من الأحكام الشرعية التي هي ذات طابع اجتهادي، حيث أنها قد تطابق التشريع الواقعي في الإسلام، وقد تخالفه، لا في الأحكام الإسلامية التي هي ذات طابع واقعي في تشريعها.
وبكلمة أخرى: أن الأحكام الشرعية الإسلامية في
واقعها الموضوعي ليست وليدة أنظار الإنسان وأفكاره المتخالفة بعضها مع بعضها الآخر، فإنها أحكام إلهية قد جاء بها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي ثابتة على أسس متينة، وأصول موضوعية، ومبادئ واقعية، ولا تتغير تلك الأحكام بتغير الأفكار، والآراء والأزمان.
وأما الأحكام التي هي وليدة اجتهادات المجتهدين فهي بطبيعة الحال تختلف باختلاف الاجتهادات والأنظار فقد تكون مطابقة لواقع التشريع الإسلامي، وقد تكون مخالفة له، وحيث أن الأحكام الإسلامية الواقعية موزعة في مجموع اجتهادات المجتهدين هنا وهناك فبطبيعة الحال تتفاوت نسبة التوزيع إلى
المجموع بتفاوت الأبواب والمسائل.
بيان ذلك أن المسائل الموجودة في الموسوعات الفقهية، والرسائل العملية على ثلاث أنواع:
النوع الأول:
المسائل المتوفرة في أبواب المعاملات وبعض أبواب العبادات، حيث أن نسبة الخلاف الموجود بين المجتهدين في مسائل تلك الأبواب أصغر حجماً من الخلاف الموجود بينهم في أكثر مسائل أبواب العبادات.
والسبب فيها امران:
أحدهما أن مسائل هذه الأبواب غالباً مسائل عقلائية يرجع في تعيين حدودها سعة وضيقاً، وتحديد المواقف العملية فيها إلى طريقة العقلاء والعرف العام، إلا فيما اذا قام نص خاص من قبل الشرع على الخلاف. ولأجل ذلك: لا تحتاج عملية الإجتهاد فيها إلى أعمال مقدمات نظرية بدقة أكثر، وعمق أكبر.
والآخر: أن النصوص الواردة في جملة من مسائل تلك الأبواب، وبعض أبواب العبادات كانت نصوصاً واضحة في مختلف جهاتها فلا تقبل الشكوك والأوهام بدرجة تؤدي إلى الخلاف بين المجتهدين كنصوص مسائل الأرث، أو ما شاكلها.
ومن الطبيعي أن نسبة الخطاء في مجموع آراء
المجتهدين لواقع التشريع الإسلامي في مجموع مسائل هذه الأبواب أقل نسبة الخطاء في مجموع آرائهم لواقع التشريع الإسلامي في مجموع أبواب العبادات على حساب نسبة عدد الفتاوي.
النوع الثاني: المسائل المشهورة بين المجتهدين التي قلما يوجد الخلاف بينهم في تلك المسائل، على أساس وضوح مصادرها التشريعية وعدم تطرق الشكوك والأوهام فيها غالباً.
وبطبيعة الحال: أن نسبة توزيع الأحكام الإسلامية الواقعية بين اجتهادات المجتهدين في مجموع تلك
المسائل التي هي ذات طابع اتفاقي أكبر من نسبته بين اجتهاداتهم في مجموع المسائل الخلافية التي هي ذات طابع خلافي مع الحفاظ على النسبة.
النوع الثالث:
المسائل الخلافية، أما بملاك ورود نصوص متضاربة فيها، أو بملاك أنها من المسائل النظرية الغامضة، وعلى كلا التقديرين تتوقف عملية الإجتهاد فيها على أعمال مقدمات نظرية أكثر حدساً، وأكبر دقة، ولأجل ذلك يقع الخلاف في تلك المسائل بين المجتهدين على طول الخط.
ومن الواضح أن نسبة توزيع الأحكام الواقعية بين
اجتهادات المجتهدين في مجموع هذه المسائل الخلافية أصغر حجماً من النسبة بين اجتهاداتهم في المسائل الاتفاقية على حساب عدد الفتاوي والإجتهادات.
فالنتيجة في نهاية المطاف:
أن الأحكام الواقعية موزعة في مجموع الاجتهادات والفتاوي للمجتهدين منذ عهد وجود عملية الإجتهاد لحد الآن غاية الأمر أن نسبة التوزيع تختلف باختلاف الأبواب والمسائل.
وأما نسبة توزيع الأحكام الواقعية إلى مجموع اجتهادات كل مجتهد في كل عصر فهي بطبيعة الحال مختلفة، ولا يحتمل أن تكون النسبة في الجميع نسبة
واحدة.
نستخلص من ذلك كله: الحجر الأساسي لزاوية الفصل بين الأحكام التي تتمتع بطابع اجتهادي والأحكام التي تتمتع بطابع واقعي.
وهذا الفصل بين الفئتين من الأحكام الإسلامية لن يدع مجالاً، ولا يدع للشكوك والريب حول الخلاف الواقعي بين المجتهدين في الأحكام الإجتهادي.
وما قيل: من التشكيك في هذا الخلاف، وأنه كيف يمكن تبريره رغم أن الدين الإسلامي واحد بتمام تشريعاته الموجودة في الكتاب والسنة فهو ناجم عن عدم فهم معنى عملية الإجتهاد والإستنباط أصلاً وعن أن هذا ليس اختلافاً في الأحكام الواقعية الإسلامية،
وإنما هو اختلاف في الأحكام الإجتهادية التي هي، وليدة أفكار المجتهدين في اطار اسلامي، وهي قد تطابق الأحكام الواقعية وقد لا تطابق.
وقد تقدم أن الإجتهاد مهما بلغ مداه من الصحة لا يملك مطابقته لواقع التشريع الإسلامي، ولكن مع ذلك طابع إسلامي لما عرفت من أن الإجتهاد من النصوص الترشيعية للكتاب والسنة في الحدود المسموح بها شرعاً لا محالة يتمتع بطابع إسلامي.
نعم يفترق هذا الطابع الإسلامي عن الطابع الإسلامي لواقع التشريع في نقطة وهي أنه في الأول ظاهري، وفي الثاني واقعي، ولأجل ذلك يقع الخلاف فيه، دون الثاني.
ومن هنا يظهر بوضوح أن الإجتهاد ليس وليد أفكار المجتهد فحسب، ومنعزلاً عن التشريع الإسلامي تمام الانعزال، وفي زاوية أخرى مقابل زاوية التشريع، بل له حظ التشريع الإسلامي الظاهري.
وأن شئت قلت: بعدما عرفنا من أن الإجتهاد عنصر أساسي في الإسلامي في كل عصر فهو بذاته يتطلب الإختلاف بين المجتهدين فلا يمكن افتراض الإجتهاد في المسائل الفقهية وأعمال النظر والرأي فيها بدون الإختلاف، فإنه خلف.
وكذلك الحال في كافة العلوم النظرية: كعلم الفلسفة وعلم الطب، والهندسة، وما شاكل ذلك.
الأولى: أن عملية الإجتهاد والإستنباط موجودة في عصر التشريع على طول الخط، غاية الأمر أن هذه العملية ذلك العصر كانت عملية بسيطة وغير معقدة، والممارس لها في ذلك غير ملتفت وواع إلى طبيعة القاعدة الأصولية وحدودها، وأهمية دورها في هذه العملية.
الثانية: أن عملية الإجتهاد في عصر الغيبة قد أصبحت عملية معقدة وصعبة فتواجهها الشكوك والأوهام من مختلف الجهات التي تنبع من الفصل الموجود بين هذا العصر وعصر التشريع، وقد عرفت أن الوصول إلى مرتبة الإجتهاد لا يمكن إلا بعد تقديم دراسات ودراسات حول تمام جوانب النصوص التشريعية
وممارستها على طوق السنين على الرغم من تقديم دراسات عدة علوم بصورة مسبقة.
الثالثة: أن الإجتهاد والتقليد عنصران أساسيان في الإسلام، وضروريان لتحديد المواقف العملية للأنسان تجاه الشريعة – بحكم ضرورة تبعيته لها – على طول التاريخ.
الرابعة: أن علم الأصول ليس علماً مستحدثاً في زمن متأخر من علم الفقه، بل هو موجود منذ ولادته، ومرتبط به ارتباط العلم النظري بالعلم التطبيقي ولا يمكن انفكاك الفقه عن الأصول على طول التاريخ وفي تمام المراحل، فإن المتاخر إنما هو دراسة بذرة التفكير الأصولي منفصلة عن دراسة البحث الفقهي
التطبيقي وتسمية هذه الدراسة بعلم الأصول، وأما البذرة فهي موجودة منذ تاريخ حدوث الفقه.
الخامسة: ان اختلاف المجتهدين في الفتاوى ينبع من الإختلاف بينهم في مرحلتين:
المرحلة الأولى: في تحديد النظريات العامة، والقواعد المشتركة في الأصول، والمرحلة الثانية في تطبيق تلك النظريات العامة والقواعد المشتركة على عناصرها الخاصة في الفقه، وقد عرفت مناشئ هذا الإختلاف بشكل موسع.
السادسة: أن نسبة توزيع الأحكام الواقعية إلى مجموع اجتهادات المجتهدين تختلف باختلاف الأبواب والمسائل كما أنها تختلف باختلاف المجتهدين
وليست على نسبة واحدة في الجميع.
هذا تمام ما أوردناه في هذه الرسالة بعونه تعالى وتوفيقه وهو الموفق والمعين نحمده سبحانه ونشكره على ذلك.
النجف الأشرف في 1983/10/10 م
مواضيع الكتاب 3
الفصل الأول: احكام الإجتهاد 5
الفصل الثاني: الفراغ بين عصر التشريع و عصر الإجتهاد 14
الفصل الثالث: الاخباريون و مسالة الاجتهاد 26
الفصل الرابع: الفقه والأصول مترابطان على طول التاريخ 57
الفصل الخامس: اختلاف المجتهدين في الفتاوي 66
الفصل السادس: الاحكام الاجتهادية فيها مجموعة من الاخطاء 73
الفصل السابع: نتائج هذه البحوث عدة نقاط 84
الفهرس 89